لو أن الأمر متاح علميا، لوجُب تغيير اسم الطائر المعروف “مالك الحزين” إلى ما يوحي بالحياة ويشي بالفرح، ذلك أنْ لا حزنَ في دورة الحياة وفي مسار تجددها الدائم، فعلى الأقل في لبنان تلقف هواة مراقبة الطيور خبر عودة “مالك الحزين” إلى بلدة المنصورة في البقاع الغربي بفرح وحبور.
يعد “مالك الحزين” أو البلشون واحدا من أجمل طيور العالم، وقد وثق حضوره الخبير في جمعية حماية الطبيعة في لبنان SPNL ماهر أسطه من خلال فيديو رصد فيه هذا الطائر، التقطه بتاريخ 7 أيار (مايو) من هذه السنة 2020، في مـا يشبه “جزيرة اصطناعية” أنجزها المجلس البلدي في المنصورة.
قطعة من الجنة
ما كتبه أسطه عبر حسابه على فيسبوك كان مثار اهتمام ومتابع المهتمين بالحياة البرية، فقال: “هذه القطعة من الجنة على الأرض هي جزيرة في بركة اصطناعية انشأتها بلدية المنصورة في البقاع الغربي (مشكورة) داخل منتزه صغير خصصته لأهل البلدة لكي يرفهوا عن أنفسهم بحضن الطبيعة”، ليضيف: “بتاريخ ذلك اليوم استطعت توثيق أربعة انواع من البلشون أو مالك الحزين تتزاوج وتعشش وتطعم فراخها بأمان على الأشجار التي زُرعت في الجزيرة، بحماية بلدية المنصورة وعناصر شرطتها واهل البلدة”.
وأشار أسطه إلى أنه “لم يسجل تكاثرها في أي منطقة من لبنان قبل ذلك التاريخ (7 أيار) وحتى الآن)”، لافتا إلى أن “كل ذلك بفضل حمايتها من (القواصين) الذين لا يميزون بين طريدة صيد وبين الطيور المحمية بالقانون، والذين لا يحترمون موسم تكاثر الطيور في الربيع”، شاكرا “لبلدية المنصورة ولأخي وشريكي في كل شيء عزت طه الذي لولاه لما تم هذا الإكتشاف”.
ثلاثة أنواع
ثمة عشرات الأنواع من طائر البلشون (مالك الحزين) حول العالم، ومصادر علمية تشير إلى ستين نوعا، لكن ما وثقته عدسة أسطه هو ثلاثة أنواع من هذه الطيور المائية، وعزا سبب تكاثرها في المنطقة إلى أن “طيور البلشون شعرت بالأمان الذي وفرته لها بلدية المنصورة في البقاع الغربي، لتبدأ بالتكاثر في هذه المنطقة”.
وقال: “هي المرة الأولى التي يتم توثيق تكاثر هذه الطيور في المنطقة، وهي Little egret واسمه باللغة العربية بلشون ابيض صغير، واسمه العلمي Egretta garzetta، أما النوع الثاني فهو Western cattle egret واسمه باللغة العربية ابو قردان (بلشون القطعان) واسمه العلمي Bubulcus ibis، والثالث هو Squacco heron واسمه العربي واق ابيض صغير (بلشون ذهبي) واسمه العلمي Ardeola ralloides، علما أن هناك نوعا رابعا كان يعشش هنا وهو Black-crowned night heron واسمه باللغة العربية غراب الليل (بلشون الليل) أما اسمه العلمي فهو Nycticorax nycticorax.
الإستدامة والتنمية المحلية
وأشار أسطه لـ “أحوال” إلى أنه “تم توثيق عشرة أعشاش على شجرة واحدة”، لافتا إلى أن “هناك عشرات الأعشاش على الأشجار المحيطة في البحيرة الإصطناعية، وأعتقد أن العدد حوالي مئة عش”، موضحا أن “جهود المحافظة على هذه الطيور من قبل الأهالي والبلدية ساهمت باستقطابها لشعورها بالأمان، ووجود غذاء كاف في الأراضي الزراعية المحيطة حيث تقتات على الحشرات، والآفات الزراعية، لذا فتأثيرها على البيئة هام للغاية حيث تقضي هذه الطيور يومها بالكامل وفي الليل أيضا (مالك الحزين الليلي الأسود) في البحث عن الحشرات التي تهدد الحقول المجاورة، وبالتالي منع تفشي الآفات الزراعية ومساعدة المزارعين على تقليل استخدام المبيدات الشديدة السمية”.
وأضاف أسطه: “هناك توجه لإعداد محاضرة للمزارعين حول هذه الطيور وأهميتها للزراعة، وضرورة المحافظة عليها، لزيادة الوعي بالإضافة إلى العديد من المبادرات والبرامج التي نسعى من خلالها إلى الإستدامة والتنمية المحلية”، وجدد التنويه بـ “مساهمة وفضل صديقي عزت طه الذي لولاه لما كان هذا الإكتشاف”.
عيتاني: توثيقه علميا
من جهته، قال خبير الطيور ورئيس جمعية حماية الطيور في لبنان ABCL فؤاد عيتاني لـ “أحوال”: “تم توثيق هذه الطيور علميا بمقال مشترك بين الباحث المختص في مجال الطيور الدكتور غسان جرادي ومكتشف هذا الحدث العلمي ماهر أسطة وبيني في المجلة العالمية الخاصة بالطيور Sandgrouse، حيث تم توثيق تعشيش ثلاثة أنواع من طيور البلشون في جزيرة اصطناعية في حديقة المنصورة في البقاع الغربي، وهو أمر بدأنا نلحظة مؤخرا في مناطق عدة في الشرق الأوسط، فعلى سبيل المثال تم توثيق تعشيش البلشون الأبيض الصغير Little egret في الإمارات العربية المتحدة أيضا، وعدد من الطيور والبط في المملكة الأردنية الهاشمية، وهناك العديد من الطيور التي تفرخ في المنطقة”.
وأضاف عيتاني: “يبدو أن ثمة انتشارا في النقاط التفريخية في أماكن عدة بالتزامن مع جائحة كورونا والحظر الذي أثر على الصيد بشكل عام، ما جعل هذه الطيور تشعر بالأمان أكثر ولا يتم إزعاجها، على أمل أن نشهد المزيد من الطيور في منطقة الشرق الأوسط عموما وفي لبنان بشكل خاص”.
طه: إبدال البندقية بكاميرا
وقال الصياد والمزارع عزت طه لـ “أحوال”: “هوايتي الصيد وأنا مزارع ولدي محطة وقود ومزرعة أبقار، وكنا نلاحظ هذه الطيور منذ سنتين أو ثلاث، وقد قامت البلدية برئاسة داني الشاويش بإنشاء جزيرة اصطناعية وسط بركة، وزرعت عليها أشجارا ومنعت الصيد فيها، وبدأنا نلاحظ أن الطيور ترتادها، ربما لصعوبة وصول الإنسان إليها وإزعاجها”.
وعن هوايته وصف طه الصيد بأنها “هواية جميلة، لكن بعد التجربة فالمحافظة على الحياة أجمل، ويعطي شعورا بالرضا يصعب وصفه، خصوصا بعد أن تم إثبات أن هذه الطيور التي تقطع آلاف الكيلومترات، وتأتي هنا لترتاح، وقد أخذت تشعر بالأمان لذا بدأت تعشش في بلادنا وللمرة الأولى، فالكل يستطيع أن يحمل بندقية ويصيد، ولكن بالمحافظة على الحياة وعدم إيذاء هذه الطيور فالإنجاز أكبر، وأنوي إبدال البندقية بكاميرا احترافية لأبدأ بتصوير الطيور، فلم أعد أستطيع إيذاءها”.
وأشار طه إلى أنه بدأ يتابع “المسار الذي تأخذه للحصول على غذائها فهي تطير بين المنصورة والبقاع وعميق، وقد تحولت القرية إلى موقع سياحي متميز، بنظافتها وتنوعها البيولوجي”.
وعن هذا التحول، أوضح طه أن “الفضل يعود إلى صديقي ماهر أسطة، فقد كنت صيادا عاديا، ولم أكن صيادا حقيقيا ذي أخلاق Ethical كما اتضح لي، حيث أقنعني وبالعقل وبالأدلة القاطعة لما يمكنني أن أقدمه للطبيعة، نظرا لخبراته المتعددة”، وختم: “المنصورة ممر جميل للطيور، وآمل أن تتوسع هذه المنطقة المحمية أضعافا مضاعفة وأن تستقطب أنواعا عدة ولا سيما في عنجر وحمانا”.
أصل التسمية
ترجع تسمية طائر “مالك الحزين” بهذا الاسم إلى اعتقاد الناس بأنّ لهذا الطائر طابعاً حزيناً، فهو يعيشُ في الأصل بالقُرب من البحيرات والمستنقعات الصغيرة، والتي لا يفارقها أبداً حتى تجفّ، ومتى ما جفَّت فإنه يبقى حولها (رغم جفافها) مُطأطأ الرأس، فيبدو وكأنه حزينٌ على جفافها.
أنور عقل ضو